الرحيل بلا صوت هو أجمل هدية نقدمها لأنفسنا كي نختصر بها مسافات الألم والإحباط والفشل .. حين نشعر بأن كلماتنا لا تصل إليهم .
إذا قررت الجري يوماً فإصطدمت بالجدار أو فكرت في الطيران إليهم فإصطدمت بالسقف أو حاولت السباحة نحوهم فتحول البحر إلى كتلة من الثلج فعندها فقط ..
انتعل احساسك بالإحباط وأرحل عنهم بلا صوت .
وحين تكتشف أن الزمان ليس زمانك وأن المكان ليس مكانك والإحساس ليس احساسك ، وأن الأشياء حولك لم تعد تشبهك وأن مدى أحلامك ما عادت تتسع لك ..،،
عندها .. لا تتردد وأرحل بلا صوت .
وعند الرحيل لا تضيع وقتك في البحث في أحشاء اللغة لإنتقاء كلمات الحب أو الإعتذار أو الوداع ، فكل الكلمات التي تولد لحظة الفراق إنما هي مجرد محاولات فاشلة لتبرير وتفسير هروبك .. وضعفك .
وعند الرحيل أيضاً يغلق البعض في وجهك كل أبواب الرحيل ، كي يمنعك من الرحيل .. لأنه يحبك ..، والبعض يعترف لك بحبه عند الرحيل .. كي يبقيك معه ويكتشف البعض الآخر أنه يحبك بعد الرحيل ، فيحترق ويحرقكك بإكتشافه المتأخر .
وحين تقرر الرحيل ، لا تدفن رأسك في الرمال كالنعامة ، كي لا تلمح وجوه أولئك اللذين أحبوك بصدق ، وراهنوا على بقائك معهم .. فخذلتهم برحيلك .
ولا تبك بصوت مرتفع كالأطفال ، كي يصل صوتك لأولئك الذين أحببتهم بالصدق ذاته .. فخذلوك ، وأترك المساحات خلفك بيضاء وشاسعة لهؤلاء وهؤلاء ، كي يمارس كل منهم طقوس حنينه إليك بطريقته الخاصة .
وتأكد .. مهما كان لون أو شكل حجم صمتك عند الرحيل ، فلرحيلك صوت قد تسمعه كل الكائنات .. لكنه لن يؤلم أبداً ، ولن يصل إلا لأولئك الذين يشكل لهم وجودك شيئاً من الوجود .
وللرحيل أكثر من نافذة وأكثر من باب ، وتراودني كثيراً فكرة الرحيل بلا أجنحة ، والطيران بعيداً عن كل الأشياء وإحكام إغلاق كل أبواب ونوافذ العودة خلفي ، والبدء من جديد في عالم جديد ..، برغم يقيني التام أن محاولة الطيران بلا أجنحة حماقة لن يغفرها لي التاريخ يوماً .
نعم .. فعلها عباس بن فرناس يوماً ورحل بلا أجنحة ، ولم تكن تجربته حماقة كما يظن البعض ، بل كانت فكرة متقدمة على عصرها ، وجاءت في زمن ليس بزمانها فكان ثمنها أغلى ما توقع .
واخيراً ..
البعض .. يشتري احساسك لأنه يحبك ، والبعض الآخر .. يبيع احساسك لأنك تحبه .